نحو الإمارة الدستورية بقلم د. ساجد العبدلي

قبل سنوات ليست بالبعيدة جدا، عندما ظهر حزب الأمة وطرح في أول ما طرح مسألة إشهار الأحزاب كضرورة حتمية وكخطوة أساسية للمضي قدما لاستكمال التجربة الديمقراطية، كان الأمر بالنسبة إلى السلطة ولأغلب السياسيين- بمن فيهم الجريئون جدا- ناهيك عن عموم الناس، أشبه بالزندقة، ولهذا تم استدعاء جميع أعضاء الحزب إلى نيابة أمن الدولة ووجهت لهم التهمة العظمى في القانون الكويتي، تهمة التآمر على قلب نظام الحكم. ولكن مضت الأيام، وسقطت التهمة طبعا، وبدأ الناس يتداولون ذات الفكرة شيئا فشيئا، أعني فكرة إشهار الأحزاب وتنظيم العمل السياسي، حتى وجدت رئيس مجلس الأمة السابق نفسه، السيد جاسم الخرافي يتحدث عنها في لقاء صحافي له باعتبارها ضرورة ديمقراطية حتمية، وصار اليوم لا يكاد يخلو منها برنامج لأي جماعة من الجماعات السياسية.  واليوم ها هو يتكرر الأمر مع مسألة مشابهة ألا وهي الإمارة الدستورية، والتي هي أيضا مسألة ليست بجديدة في الحقيقة، بل سبق أن تداولتها بعض النخب وطرحها بعض الناشطين والكتّاب خلال السنوات الماضية، وأفخر بأني منهم، باعتبارها هدفا أسمى يجب أن تطمح إليه الديمقراطية الكويتية، ويجب أن تصله في وقت من الأوقات، ولكن ظلت الفكرة دائما تراوح في الإطارات الفكرية النظرية، ولم يباشر أحد بالسعي نحوها، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها عدم توافر الظروف والمعطيات الملائمة، ولانشغال الساحة دائما بقضايا ساخنة تارة ومفتعلة تارة أخرى تختطف الانتباه وتؤجج الجماهير بعيدا عن مثل هذا الطرح العميق والعالي السقف جدا بطبيعة الحال، لكن فجأة وفي خضم الأزمات السياسية المألوفة المتلاحقة، ارتفع “صوت” يطالب بالإمارة الدستورية، وهو الأمر الذي أسعد أمثالي من المؤمنين بهذه الفكرة منذ القديم، ولكنه أخافهم كثيرا في ذات الوقت، وذلك لأن ارتفاع هذا الصوت بهذه المطالبة لم يستند إلى الأصول الموضوعية للأمر، وحسبه أنه جاء على هيئة شعار جماهيري وتهديد محض كجزء من الصراع السياسي الدائر لا أكثر، وهو الأمر الذي ينذر بإفشال وإحراق المشروع! إن مطلب الإمارة الدستورية لا يصلح أن يكون هكذا أبدا، بل هو مشروع بعيد المدى لا بد له أن يمر بسلسلة طويلة من الخطوات الأساسية، كخطوة تعديل الدوائر الانتخابية وجعلها دائرة واحدة، وتعديل آلية الانتخابات لتقوم على أساس القوائم والمجموعات لا على الأساس الفردي، وإنشاء هيئة مستقلة للانتخابات تشرف عليها وتضمن نزاهتها، وكذلك تشكيل الحكومة من خلال الأغلبية البرلمانية، وأن يكون رئيسها شعبيا منتخبا، وأيضا استقلال القضاء، وغيرها من الخطوات الضرورية الأخرى. ومن الضرورة أصلا أن تمر كل هذه الخطوات عبر القنوات الدستورية، وهي التي تتيح هذا بلا أدنى شك عندي إن توافرت الرغبة الصادقة لذلك، وهكذا وعندما تستكمل هذه الأمور فسيكون الواقع برمته مهيأ لتقبل فكرة الإمارة الدستورية، والتي ستكون حينئذ مجرد استكمال شكلي لما هو قائم حقا في كل مناحي الحياة السياسية. لهذا فلا ملامة لمن لا يثقون بجدية بعض نواب الأغلبية ممن رفعوا السقف اليوم وطالبوا بالإمارة الدستورية، لأن الأمر كما رأينا قد جاء منهم كرد فعل على تحويل قانون الدوائر الانتخابية للمحكمة الدستورية لا أكثر، وليس كقناعة متأصلة راسخة في صميمهم منذ القديم، فلم نسمع منهم سابقا أي طرح جاد حول المسألة، بل ولا حول أي جزء من متطلباتها الضرورية التي ذكرتها أعلاه، كما أنهم لم يقدموا الآن ما يشير إلى إدراكهم لما يريدون حقا.  أؤمن بأن “الإمارة الدستورية” ليست أمرا يمكن تحقيقه بخبطة واحدة من خلال النزول إلى الشارع ورفع اليافطات والصراخ عبر الميكروفونات، فليس الأمر كإزالة رئيس الحكومة مثلا، بل هو مشروع دولة المستقبل، وهو المشروع المتكامل الذي يجب أن ندرك جميعا أنه مشروع الإنقاذ الحقيقي، ولابد له لهذا أن يتم تداوله بالطريقة العلمية الدستورية القانونية السليمة. لذلك فعلى من يقول وينادي به أن يعرف تماما وعلى وجه اليقين كيف يمكن الوصول إليه وما هي الخطوات اللازمة لذلك، وأما التلويح والتهديد به كما يحصل حاليا فهو مجرد كلام فارغ لا قيمة له، لعله يراد منه أصلا حرق المشروع!