سعدية مفرح ـ جمهورية الكلام العربية الديموقراطية !

الجميع {حر} أو إنه يريد أن يكون كذلك في جمهورية الكلام العربية الديموقراطية! الجميع يريد أن يمارس «حريته» كما يشاء، لكنها «الحرية» التي لا يتبناها أحد كما يبدو! يمارسها ولا يتبناها كمفهوم حياة، لأنها ستكون وبالا عليه أو هكذا يظن إن مضى معها الى النهاية لأنها ستودي به الى جمهورية أخرى هي جمهورية الحرية للجميع، وهذا ما لا يحتمله ولا يطيقه! هو يظن أنه وحده من يستحق نعمة الحرية، وبالتالي فهو حر في قول ما يريد من كلام، لكنه لا يريد لغيره أن يكون حرا في قول الكلام إن كان متناقضا مع كلامه، وهو حر في إبداء رأيه لكنه مستعد تماما لأن يقاتل الآخرين، وبكل الأسلحة المحرمة قانونيا واجتماعيا، إن تجرأوا في إبداء آرائهم كما فعل إن كانت تلك الآراء مما يخالف رأيه. هل هذه حرية فعلا؟

أمثولة الحرية

إنها على أي حال أمثولة الحرية السائدة في بلادنا العربية كلها تقريبا. وما يحدث هنا يحدث هناك وإن بنسب مختلفة، وفقا لنسب ما يتوافر من حريات «حقيقية» في هذا البلد أو ذاك، وبالتالي فلا جديد يمكن أن نشير إليه على صعيد التناقض الذي نعيشه جميعا كعرب بين ما نؤمن به حقا ولدرجة الممارسة وبين ما ندعي أننا نؤمن به حقا، ولكننا عند أول اختبار نسقط سقوطا مريعا من دون أن يسمي علينا أحد، فالجميع مشغول بممارسة «حريته»، أو بمحاولة منع الآخرين من ممارسة {حرياتهم}!

قضية «ليست هامشية»

في الأسبوع الماضي انشغل كثيرون من المتابعين للقضايا العربية العامة على مواقع التواصل الاجتماعي، بقضية تبدو هامشية بل وربما تافهة لمن لا يعرف البيئة الثقافية والاجتماعية والدينية التي أنتجتها بشكل دقيق وتفصيلي. والقضية، التي كنت أتحرج من وصفها بذلك لولا تداعياتها اللاحقة، بدت غريبة الى درجة الدهشة، أخيرا ككل القضايا التي تثار ثقافيا واجتماعيا ودينيا في المملكة العربية السعودية، بالنسبة لنا نحن العرب من خارج المملكة. ليس لأننا نعيش تلك القضايا نفسها، وإن بمواصفات مختلفة بعض الشيء، ولكن لأننا، كعرب خارج المملكة، نراقب أوضاعها المتغيرة سريعا بشمولية أكبر مما يفعله أهلها منطقيا، وبالتالي تكون أمامنا الفرصة أوسع لتأكيد هامشية القضية وغيرها من القضايا المشابهة مقارنة بأخرى تثار أو ينبغي أن تثار في المملكة وفي الوطن العربي ككل.

قولٌ وفعلٌ

داعية ينتمي الى المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية بشكل ما، اسمه أحمد الغامدي ظهر في برنامج د. بدرية البشر على قناة أم بي سي مصطحبا زوجته لتوكيد فتوى سبق وان أطلقها عن جواز كشف المرأة عن وجهها وفقا للشريعة الاسلامية، ولذلك فقد حرص الرجل، على ما يبدو، أن يقرن قوله بفعل قدر أنه سيسكت الآخرين الذين كانوا قد «تحدوه» أن يفعل ذلك. وقبل الرجل التحدي. فماذا حدث؟

كان من المفترض أن تنتهي المسألة عند هذا الحد، فقد سبق وأن نوقش الامر معه فقهيا واجتماعيا حول فتوى كشف الوجه بالنسبة للمرأة المسلمة، وقد أدلى الجميع بدلائهم الفقهية فيها، الى ان انتهى الأمر يومها بطرح التحدي لتطبيق الفتوى عمليا، وقد تم.

نحن هنا لسنا بصدد مراجعة أي حكم شرعي أو فقهي، فقد قيل في تلك المسألة الكثير جدا، والمتناقض جدا، لكن ما أدهشني ككل مرة أتابع فيها قضية تنتمي الى هذا النوع من القضايا، أن معظم المستقطبين فيها تركوا لب القضية واستمسكوا بعروة الهامش.

في الوقت الضائع

ظهرت صور وتصريحات وفتاوى أخرى للغامدي لتكون محلا لنقاش جديد حول الرجل وأخلاقه وتصرفاته العامة والخاصة ومكانته العلمية ومصداقية ما يقول ويفعل وأصله وفصله وعلاقاته.. وغيرها، استخدمها مخالفو الرجل في رأيه أسلحة للحرب عليه. وبغض النظر عن صحة هذه «المعلومات» أو عدم صحتها فقد استخدمت في غير محلها بل انها استخدمت في الوقت الضائع لمعركة منتهية أو يفترض أنها منتهية! وككل سلاح محرم، وككل سلاح يستخدم في غير وقت المعركة، فقد تحول إلى أداة لجريمة بدلا من أن يكون أداة لدفاع عن حق مفترض.

ليس الغامدي وحده ضحية تلك الجريمة اللاأخلاقية بل هناك ضحايا آخرون عانوا أكثر مما عانى الرجل نفسه، فهو، على أي حال، كان مستعدا لذلك وقبل التحدي منذ البداية، لكن ما ذنب السيدة زوجته، التي وجدت نفسها ضحية بشكل مزدوج، مرة لمخالفي زوجها، الذين اتخذوها موضوعا للشتيمة والسخرية وصورة «العار»، ومرة لزوجها، الذي اتخذها مادة للتطبيق العملي لفتاواه ووسيلة إيضاح لآرائه؟. لا ذنب لها سوى أنها مواطنة، مثلنا جميعا، في جمهورية الكلام العربية الديموقراطية!