خلود الخميس ـ فلسفة البدايات

يربط البعض بداياته ببدايات أخرى لا تعنيه، هكذا هو، يخاف اختلاق جديد، فيحتمي ببزوغ عند الغير ليتراجع، سياسة الأبواب المواربة، متانة خطوط العودة، الحوم حول المنطقة الحمائية الخاصة به، بدايته ليست فعلا ابتكاريا، بل رد لفعل خارج قراره فتبعه، لأنه دأب على التقليد، على الاتباع، على قذف المسؤولية عن سلوكه واختياراته فوق مسمار محفور في حائط حدث ما.
أبدية التسيير اختيارنا نحن، لنذكر ذلك جيدا كلما رفعنا أقدامنا استعدادا للدخول في دائرة الفعل، التخيير خيار مطروح وبإرادتنا نعلقه في أقبية الضرورة واعتباره من المحظور.
 
جزء من حيل النفس البشرية لتثبيطنا تزيين الاتكال على مجهول، فهي ترى في الغيب أملا وتمنيا، وديدنها «قد يحدث كذا عندما يحدث كذا» ارتباط ورباط.
 
وتعلم صناديقنا المغلقة في ذاكرة التوق للواقع، انه سهل معلوم، تسعى «حلما» وتقعد «عمليا» لتبلغ غاياتها بانتظار مرور القدر، ولا تذهب إليه.
 
تلك النفس الملكة المتغلبة على صاحبها بسلاح اللذة، تسيره حيث اللاحراك، اللاتغيير، اللاإنجاز، اللاشيء، حيث الانتظار المضني، تدفع له بمبررات الراحة والكسل والركون والعجز، تسوغ لرغباته المحمومة باتجاه التبعية للمتع، تعرض عليه حسنات حاله ليفرح بالوضع الراهن ويقبل أن يكون رهينته، تكرر ما يؤمن به معتقدا «آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه..»، وتهمس بأذنه: لقد حيزت لك الدنيا، ليكتفي، وتخفي عنه دوره في غرس الفسيلة التي في يده وإن رأى قيام الساعة تحت قدميه، تنتقي من دينه ما يؤيد هواها لا ما ينجيه، شر فقيه هي.
 
النفس ليست دائما صحبة صالحة، لذلك البدايات ثقيلة، لأنها عراك معها، حتى بداية شيء جميل، يرافقها ألم التخلي عن موجود سابق وإن كان بشعا، حزن الرحيل، لا يختص بالأشخاص فقط، بل بالأحداث، بتأثيرها سعادة أو شقاء، فمتى ما خرج الإنسان على نفسه، وأشهر بوجهها بارود قرار الانسلاخ عن شيخوختها، كانت بداية لولادة نفس أخرى، فهل من السهل نزع نفس وزرع جديدة مكانها من أجسادنا؟
 
لا، فالجسد يميل للاعتياد، يتحيز للمألوف، يبكي على فراق جلاده، الجسد مدمن على جرعات راتبة ربي عليها رافقته زمنا، حتى الأذى طويل الأمد، تبرره تلك الأوعية الصدئة لأرواحنا المسماة أجسادنا، تظن أنها تحمينا من الموت فتستبدله بالعذاب، كصفقة السجان لسجين مغتصب الرأي.
 
ظنها ظن سوء، يؤدي لإثم العبودية للألم، باسم بقاء فتات من أمن وبعض هناء نوم وبقايا طعام، ظنها ظن سوء، لانتصارها للظالم القوي، على مظلوم ضعفته بوسوستها له ضده، ظنها ظن سوء، لأنها خالفت السنن الكونية بالتغيير، وشككت في قوة وقدرة فطرة البقاء لديه على إخضاع الأدوات الساعية لفنائه.
 
نسترجع من ذاكرتنا، من محيطنا، أهلا وأصحابا، كم روحا نعرفها ثارت على الجسد والنفس الأمارين بالخنوع لتبدأ من جديد؟ كم روحا طرقت في حائط زنزانة انفرادهما بها، حتى أحدثت ثقبا تتسرب خلاله لتحلق فوق السطح إلى لا مكان؟ إن عجزنا عن اكتشاف ماذا حدث من ثورات لأرواح أخرى على أنفسها التي استخدمت أجسادها لتحقيق خطة السكون في عالم متغير، فمن المناسب هنا أن نتوجه بالحديث لأنفسنا.
 
هل نمتلك جرأة انتزاع زمامنا منها؟ أم، كالعادة، ننتظر يد صديق لنعود لذات الدائرة المغلقة؟
 
أنؤمن بأرواحنا المجبولة على التحليق عاليا، أم بأنفسنا التي تخاف المرتفعات والأماكن الملونة؟
 
ما سبق، مشهد لصراع السلطة على الجسد والعقل، بين الروح والنفس، وكثير من الأسئلة حول تعاملنا وفهمنا للبدايات سنعجز عن الإجابة عنها، إن لم نقرر بداية أهم اختيار وجودي: لمن القيادة، روح التغيير والتجربة والتحول والتجديد، أم نفس تستعذب بؤس الاستيطان وتسقي جذور الاستسلام؟
 
بالتأكيد لكل إجابته الخاصة، إن أراد معرفتها.